لقد حظيت السيرة النبوية بما حفلت به من أقوال، وأفعال، وتقريرات بعناية العلماء قديماً وحديثاً.
ولقد كتب العلماء قديماً في السيرة وكانت كتاباتهم تحمل طابعاً يناسب عصورهم، ويناسب -كذلك- كثيراً ممن جاء بعدهم، وتصلح لأن تكون مادة ومراجع أصيلة للسيرة.
غير أن هناك كثيراً من المسلمين في العصر الحديث يرغبون عن تلك الأساليب القديمة، ويرغبون في كتاباتٍ معاصرة تُكْتَبُ بأسلوب ملائم، وتعالج قضايا استجدت في موضوع السيرة.
ومن هنا قام كثير من الكتاب بتقديم دراسات في السيرة، فأدوا دوراً طيباً وآثاراً حسنة في نفوس المسلمين.
ولكن تلك الكتابات لم تكن على وتيرة واحدة من جهة تقديرها للوحي، والغيبيات، والمعجزات، ومقام النبوة عموماً.
كما أنها لم تكن على نحوٍ واحد من جهة اختلاف توجهات أصحابها، وأهدافهم من كتابة السيرة، والمقام لا يسمح بمزيد من التفصيل.
وعلى كل حال فإن مناهج الباحثين في السيرة النبوية يمكن حصرها في ثلاثة:
المنهج الأول: منهج المبالغين الغالين: الذين يضفون على النبي-صلى الله عليه وسلم- صفات لا تليق إلا بالله -عز وجل-.
فهؤلاء يبالغون في إطرائه، ولا يبالون في صحة ما يرون أو ينقلون، ولا يعتمدون على القرآن الكريم، والمصادر الأصيلة من كتب السنة والسيرة.
ولا يمتري عاقل أنه لا أفسد للتاريخ والسير من تلك الروايات المحلقة في سماء الخيال، والتي تنقل الحياة البشرية من عالم الواقع إلى جو الأساطير.
وليست هناك حياة كانت على الأرض هي أغنى بواقعها المجرد من حياة سيد الخلق محمد -صلى الله عليه وسلم-.
فهي حياة تنطق كل حركة منها، ويشهد كلُّ موقف من مواقفها بأنها حياة بلغت في السلوك البشري حد الإعجاز.
وإن خصائصه ومعجزاته التي نطقت بها آيات الكتاب المجيد، والسنن الصحيحة، والآثار المعتبرة لهي من الكثرة والوفرة بحيث لا تحتاج إلى تلك الزيادات التي يمجها الذوق السليم، وتعافها الفطرة السوية، والتي لا يشهد لها سند صحيح، ولا نقلٌ مُوثَّق، بل عامتها من وضع الزنادقة والمنحرفين(1).
المنهج الثاني: منهج الباحثين الغربيين ومن سار على طريقتهم: فهذا المنهج يسلكه أغلب المستشرقين ومن شاكلهم من الكتاب والمفكرين المنتسبين للإسلام.
فهؤلاء إذا تناولوا السيرة بالبحث والدراسة تعاملوا معها كما يتعاملون مع سيرة أي زعيم أو بطل، أو قائد، أو فاتح؛ فيتحدثون عن النبي-صلى الله عليه وسلم-كما يتحدثون عن هؤلاء، ويصفونه بالبطل، أو العبقري، أو الزعيم أو نحو ذلك من الألقاب التي لا تغني عن مقام النبوة.
وتراهم يتحدثون عن سيرته -عليه الصلاة والسلام- حديثاً مادياً بحتاً مجرداً دون ربط لها بالوحي والغيب، والتأييد الإلهي، وكأنهم يتحدثون عن سيرة نابليون، أو هتلر، أو موسوليني.
ولا ريب أنهم قد يثنون على النبي -صلى الله عليه وسلم- ويصفونه بأوصاف كبيرة، ويفضلونه على غيره.
ولكن الخطورة تكتنف هذا المنهج من جهة قطعه عن الصلة بالله، وعن الإيمان بالغيب؛ فتراهم ينكرون عدداً من المعجزات الثابتة بصريح القرآن، ومتواتر السنة، كنزول الملائكة في بدر، وطير الأبابيل، وشق صدر النبي-صلى الله عليه وسلم- والإسراء.
وترى بعضهم يرى أن (اقرأ) كانت مناماً، وأن الإسراء سياحة الروح في عالم الرؤى، ويَصِفُ الملائكة الذين أمد الله بهم المسلمين في غزوة بدر بالدعم المعنوي، ووصف الطير الأبابيل بداء الجدري، وأن شق الصدر كان شيئاً معنوياً، وأن لقاء جبريل بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في غار حراء كان مناماً، إلى غير ذلك مما جاء في ذلك السياق.
وهكذا تُفَّرغ سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- من الحقائق الغيبية، والمعجزات والخوارق التي لا يمكن أن تتنافى في جوهرها مع حقائق العلم وموازينه التي يدَّعون أنهم يسيرون على وفْقها؛ لأن الله هو خالق النواميس، وهو القادر على خرقها متى شاء.
وربما استروح بعض أصحاب هذا المنهج إلى إحياء الأساطير في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-(2).
المنهج الثالث: وهو المنهج الصحيح: وهو الذي أنكر منهج الغلو والمبالغة في إطراء النبي -صلى الله عليه وسلم- كما أنكر الأسلوب المادي الفلسفي في دراسة السيرة.
فالمنهج الصحيح هو الذي يقوم على الأصالة والسلامة، وهو الذي يعتمد في دراسة السيرة، واستلهام العبر منها على القرآن الكريم، والمصادر الأصيلة الصحيحة من كتب السنة والسيرة دون مبالغة في إطراء النبي -صلى الله عليه وسلم- وإخراجه عن وصف العبودية في أعلى مقاماتها.
ودون غمط لمقام النبوة الذي يعلوا به على سائر البشر.
وهو المنهج الذي يقوم -أيضاً- على الإيمان بالغيبيات، والمعجزات، والأخبار القطعيات.
فهذا هو المنهج الحق، وإن كان أصحابه يتفاوتون في جودة الطرح، وقوته، وعمق